فصل: تنبيه: اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


تنبيه

اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط

وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يظهر رجحانه بالدليل من ذلك فنقول وبالله جل وعلا نستعين‏:‏

قال بعض العلماء‏:‏ الحكم في ذلك‏:‏ أن يقتل الفاعل والمفعول به مطلقًا سواء كانا محصنين أو بكرين، أو أحدهما محصنًا والآخر بكرًا‏.‏

وممن قال بهذا القول‏:‏ مالك بن أنس وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد‏.‏ وحكى غير واحد إجماع الصحابة على هذا القول، إلا أن القائلين به اختلفوا في كيفية قتل من فعل تلك الفاحشة‏.‏

قال بعضهم‏:‏ يقتل بالسيف‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يرجم بالحجارة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يحرق بالنار‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يرفع على أعلى بناء في البلد فيرمى منه منكسًا ويتبع بالحجارة‏.‏

وحجة من قال بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط مطلقًا‏:‏ ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏"‏‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ ورجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافًا اهـ‏.‏ وما ذكره يحيى بن معين من أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ينكر عليه حديث عكرمة هذا عن ابن عباس، فيه أن عمرًا المذكور ثقة، أخرج له الشيخان ومالك كما قدمناه مستوفى‏.‏

ويعتضد هذا الحديث بما رواه سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية‏:‏ أنه يرجم‏.‏ أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي‏.‏

وبما أخرجه الحاكم وابن ماجه عن أبي هريرة، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا‏"‏ قال الشوكاني وإسناده ضعيف‏.‏

قال ابن الطلاع في أحكامه‏:‏ لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏اقتلوا الفاعل والمفعول به‏"‏ رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة‏.‏ اهـ‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وحديث أبي هريرة لا يصح، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري عن سهيفل عن أبيه عنه وعاصم متروك‏.‏ وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ‏:‏ ‏"‏فارجموا الأعلى والأسفل‏"‏ اهـ‏.‏

وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه‏:‏ أنه رجم لوطيًا، ثم قال‏:‏ قال الشافعي‏:‏ وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنًا كان أو غير محصن‏.‏

وقال هذا قول ابن عباس قال‏:‏ وسعيد بن المسيب يقول‏:‏ السنه أن يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن‏.‏

وقال البيهقي أيضًا‏:‏ وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي قالا‏:‏ ثنا أبو عمرو بن مطر، ثنا إبراهيم بن علي، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ عبد العزيز بن أبي حازم، أنبأ داود بن بكر عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له‏:‏ أنه وجد رجلًا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولًا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال‏:‏ إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار‏.‏ فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار‏.‏ فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي عنه يأمره أن يحرقه بالنار‏.‏ هذا مرسل‏.‏

وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال‏:‏ يرجم ويحرق بالنار‏.‏

ويذكر عن ابن أبي ليلى عن رجل من همدان‏:‏ أن عليًا رضي الله عنه رجم رجلًا محصنًا في عمل قوم لوط‏.‏ هكذا ذكره الثوري عنه مقيدًا بالإحصان‏.‏ وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقًا اهـ منه بلفظه‏.‏

فهذه حجج القائلين بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط‏.‏

وحجة من قال‏:‏ إن ذلك القتل بالنار هو ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفًا‏.‏

وحجة من قال‏:‏ إن قتله بالسيف قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏"‏ والقتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف‏.‏

وحجة من قال‏:‏ إن قتله بالرجم هو ما قدمنا من رواية سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس‏:‏ أنه يرجم‏.‏ وما ذكره البيهقي وغيره عن علي أنه رجم لوطيًا، ويستأنس لذلك بأن الله رمى أهل تلك الفاحشة بحجارة السجيل‏.‏

وحجة من قال‏:‏ يرفع على أعلى بناء أو جبل ويلقى منكسًا ويتبع بالحجارة‏:‏ أن ذلك هو الذي فعله الحكيم الخبير بقوم لوط، كما قال‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ‏}‏‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ وهذا الأخير غير ظاهر، لأن قوم لوط لم يكن عقابهم على اللواط وحده، بل عليه، وعلى الكفر، وتكذيب نبيهم صلى الله عليه وسلم‏.‏ فهم قد جمعوا إلى اللواط ما هو أعظم من اللواط، وهو الكفر بالله، وإيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

القول الثاني ـ هو أن اللواط زنى فيجلد مرتكبه مائة إن كان بكرًا ويغرب سنة، ويرجم إن كان محصنًا‏.‏ وهذا القول هو أحد قولي الشافعي‏.‏

وذكر البيهقي عن الربيع بن سليمان‏:‏ أن الشافعي رجع إلى أن اللواط زنى، فيجري عليه حكم الزنى، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمهم الله تعالى‏.‏

ورواه البيهقي عن عطاء وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وهو قول أبي يوسف ومحمد وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة والنخعي والثوري والأوزاعي وغيرهم‏.‏

واحتج أهل هذا القول بما رواه البيهقي عن محمد بن عبد الرحمن عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان‏"‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا أبو بدر، ثنا محمد بن عبد الرحمن فذكره‏.‏ قال الشيخ‏:‏ ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه، وهو منكر بهذا الإسناد‏.‏ انتهى منه بلفظه‏.‏

وقال الشوكاني رحمه الله في ‏"‏نيل الأوطار‏"‏ في هذا الحديث، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن كذبه أبو حاتم‏.‏

وقال البيهقي لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الإسناد‏.‏ ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى‏.‏ وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول‏.‏

وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه اهـ منه‏.‏

واستدل القائلون بهذا القول أيضًا بقياس اللواط على الزنى بجامع أن الكل إيلاج فرج في فرج محرم شرعًا، مشتهى طبعًا‏.‏

ورد بأن القياس لا يكون في الحدود، لأنها تدرأ بالشبهات‏.‏ والأكثرون على جواز القياس في الحدود، وعليه درج في مراقي السعود بقوله‏:‏ والحد والكفارة التقدير جوازه فيها هو المشهور

إلا أن قياس اللائط على الزاني يقدح فيه بالقادح المسمى‏:‏ ‏"‏فساد الاعتبار‏"‏، لمخالفته لحديث ابن عباس المتقدم‏:‏ أن الفاعل والمفعول به يقتلان مطلقًا، أحصنا أو لم يحصنا، ولا شك أن صاحب الفطرة السليمة لا يشتهي اللواط، بل ينفر منه غاية النفور بطبعه كما لا يخفى‏.‏

القول الثالث ـ أن اللائط لا يقتل ولا يحد حد الزنى، وإنما يعزر بالضرب والسجن ونحو ذلك‏.‏ وهذا قول أبي حنيفة‏.‏

واحتج أهل هذا القول بأن الصحابة اختلفوا فيه، واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نص صحيح، وأنه من مسائل الاجتهاد، والحدود تدرأ بالشبهات قالوا‏:‏ ولا يتناوله اسم الزنى، لأن لكل منهما اسمًا خاصًا به، كما قال الشاعر‏:‏

من كف ذات حر في زي ذي ذكر لها محبان لوطي وزناء

قالوا‏:‏ ولا يصح إلحاقه بالزنى لوجود الفارق بينهما‏.‏ لأن الداعي في الزنى من الجانبين بخلاف اللواط، ولأن الزنى يفضي إلى الاشتباه في النسب وإفساد الفراش بخلاف اللواط‏.‏ قال في مراقي السعود‏:‏ والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح

أو مانع في الفرع‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏

واستدل أهل هذا القول أيضًا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً‏}‏‏.‏

قالوا‏:‏ المراد بذلك‏:‏ اللواط‏.‏ والمراد بالإيذاء‏:‏ السبب أو الضرب بالنعال‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الرجلان الفاعلان‏.‏

وأخرج آدم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَآذُوهُمَا‏}‏ يعني سبأ، قاله صاحب ‏"‏الدر المنثور‏"‏‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏ وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ‏}‏‏.‏ ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه أخبر قومه‏:‏ أنه إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله‏.‏

ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهيًا عما ينهى عنه غيره، مؤتمرًا بما يأمر به غيره‏.‏

وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون‏:‏ أي فلان‏.‏ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر‏؟‏ فيقول‏:‏ كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه‏"‏‏.‏

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فتندلق أقتابه‏"‏ أي تتدلى أمعاؤه‏.‏

وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو نُعيم في الحلية، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت‏.‏ فقلت لجبريل من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون‏"‏ قاله صاحب ‏"‏الدر المنثور‏"‏‏.‏ اهـ‏.‏ وقد قال الشاعر‏:‏ لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

وقد أجاد من قال‏:‏ وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض

ومعلوم أن عمل الإنسان بما ينصح به غيره أدعى لقبول غيره منه‏.‏ كما قال الشاعر‏:‏

فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتيا

{‏قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏

{‏قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏‏.‏

ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءًا، ولا شهدوا ذلك ولا حضروره خوفًا من عصبته‏.‏ فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكفار‏.‏ وقد قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى‏}‏ أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب‏.‏

وذلك بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية، ولا صلة له بالدين ألبتة‏.‏ فكونه جل وعلا يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي طالب له دليل على أن الله قد ينعم على المتمسك بدينه بنصرة قريبه الكافر‏.‏

ومن ثمرات تلك العصبية النسبية قول أبي طالب‏:‏ والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة أبشر بذاك وقر منه عيونا

وقوله أيضًا‏:‏ ونمنعه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس له عصبة في قومه الذين أرسل إليهم، ظهر فيه أثر عدم العصبة‏.‏ بدليل قوله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏‏.‏

وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين‏.‏

ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بني هاشم ولم يناصرهم بنو عبد شمس بن عبد مناف وبنو نوفل بن عبد مناف عرف النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب تلك المناصرة التي هي عصيبة نسبية لا صلة لها بالدين‏.‏ فأعطاهم من خمس الغنيمة مع بني هاشم، وقال‏:‏ ‏"‏إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام‏"‏ ومنع بني عبد شمس وبني نوفل من خمس الغنيمة، مع أن الجميع أولاد عبد مناف بن قصي‏.‏

وقال أبو طالب في بني عبد شمس وبني نوفل‏:‏

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجل غير آجل

بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل

لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا والغياطل

والغياطل ‏"‏بالغين المعجمة‏"‏ ومراد أبي طالب بهم‏:‏ بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ‏"‏القبيلة المشهورة من قبائل قريش‏"‏ وإنما سموا الغياطل،

لأن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الذي هو من سادات قريش العظام، وهو الذي يعنيه عبد المطلب بقوله يرقص ابنه عبد الله وهو صغير‏:‏ كأنه في العز قيس بن عدي في دار سعد ينتدي أهل الندى

تزوج امرأة من كنانة تسمى ‏"‏الغيطلة‏"‏ وهي أم بعض أولاده‏.‏ فسمي بنو سهم الغياطل‏.‏ لأن قيس بن عدي المذكور سيدهم‏.‏

فهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله قد يعين المؤمن بالكافر لتعصبه له، وربما كان لذلك أثر حسن على الإسلام والمسلمين‏.‏ وقد يكون من منن الله على بعض أنبيائه المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم‏.‏ وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‏"‏ وفي المثل‏:‏ ‏"‏اجتن الثمار وألق الخشبة في النار‏"‏‏.‏

فإذا عرفت دلالة القرآن على أن المسلم قد ينتفع برابطة نسب وعصيبة من كافر، فاعلم أن النداء بالروابط العصيبة لا يجوز‏.‏ لإجماع المسلمين على أن المسلم لا يجوز له الدعاء بيا لبني فلان ونحوها‏.‏

وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في تلك الدعوة‏:‏ ‏"‏دعوها فإنها منتنة‏"‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏دعوها‏"‏ يدل على

وجوب تركها‏.‏ لأن صيغة أفعل للوجوب ـ إلا لدليل صارف عنه، وليس هنا دليل صارف عنه‏.‏ ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة، وما صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه، وإنما الواجب على المسلمين النداء برابطة الإسلام التي هي من شدة قوتها تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد إنسان واحد‏.‏ فهي تربطك بأخيك المسلم كربط أعضائك بعضها ببعض، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى‏"‏‏.‏

وإذا تأملت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ تحققت أن الروابط النسبية تتلاشى مع الروابط الإسلامية، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏‏.‏

ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية، لا بروابط عصبية، ولا بأواصر نسبية‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ ‏.‏ قيد تعالى خلود أهل الجنة وأهل النار بالمشيئة‏.‏ فقال في كل منهما‏:‏ ‏{‏دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء‏}‏ ثم بين عدم الانقطاع في كل منهما، فقال في خلود أهل الجنة‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ ‏{‏عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏‏.‏

وقال في خلود أهل النار‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً‏}‏‏.‏

ومعلوم أن ‏{‏كُلَّمَا‏}‏ تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها‏.‏

وقد أوضحنا هذه المسألة إيضاحًا تامًا في كتابنا ‏"‏دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب‏"‏ في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ‏}‏ وفي ‏{‏لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً‏}‏‏.‏

تم بحمد الله تفسير سورة هود‏.‏